عادت مشاهد الدم، واختلطت مشاعر الحزن
والخوف والترقب لتطغى على أجواء قطاع غزة بعد ساعات من انتهاء زيارة أمير
قطر حمد بن خليفة آل ثاني. ومع التأكيد على أن الزيارة تعد أجرأ خطوة لكسر
حصار غزة المتواصل منذ سنوات، ومثالا يحتذى به لإعادة إعمار ما دمرته آلة
الحرب الإسرائيلية دون تسييس. إلا أن ما تلا الزيارة من سقوط شهداء وجرحى
يثبت أن الأولوية يجب أن تنصب على كنس الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية ذات
سيادة على أراضي الضفة والقدس وقطاع غزة، ومنع إسرائيل من الاعتداء عليها.
بين زيارتين...
زيارة الشيخ حمد هي الثانية. وكانت الزيارة
الأولى في عهد الزعيم الراحل ياسر عرفات في العام 1999. ومن البديهي أن
الزيارتين تمتا بالتنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي الذي انتقد بشدة الزيارة
الحالية. لكن هناك فرقا كبيرا بين الزيارتين على صعد مختلفة . فالزيارة
تأتي في ظل حالة الانقسام السياسي والكياني بين غزة والضفة والغربية. ولم
تفلح كل الجهود الفلسطينية والعربية ولا حتى استغلال إسرائيل لحالة
الانقسام لتوسيع نشاطها الاستيطاني وتعطيل أي جهد حقيقي للدفع بعملية
التسوية بحجة عدم وجود شريك والانقسام بين غزة والضفة، كما لم يخفف من حدة
الانقسام ما آلت إليه أوضاع القدس التي توشك حكومة نتانياهو على تهويدها
بالكامل وتغيير طابعها العربي الإسلامي.
كما تأتي الزيارة في ظل تصاعد الجدل
والخلافات بين النخب السياسية والشعوب العربية حول الدور القطري في "الربيع
العربي" ودورها في ليبيا وسورية على وجه التحديد. ما فرض اجراءات أمنية
مشددة. واستقبلت الزيارة برفض من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وأوساط
شعبية في غزة. ولم تشفع محاولات الحكومة القطرية لتقريب وجهات النظر بين
فتح وحماس، وتوسطها في فبراير/شباط الماضي لتوقيع إعلان الدوحة، ومواصلة
الجهود مع الجانب المصري لتوقيع اتفاق القاهرة المتضمن تشكيل حكومة وحدة
وطنية وانتخابات عامة تشريعية ورئاسية. كما لم يخفف من حدة الانتقادات
للزيارة والنظر إليها على أنها تكرس الانقسام السياسي بين غزة والضفة، عدم
توجيه انتقاد مباشر للزيارة من قبل الرئيس محمود عباس وكبار مستشاريه
المقربين. بل إن الاعتراضات تصاعدت رغم تأكيد الشيخ حمد من قلب "معقل" حماس
أنه لا بديل عن المصالحة الفلسطينية، وأنه لا يوجد أي مبرر للانقسام.
مصلحة مباشرة لسكان قطاع غزة...
ومما لا شك فيه أن الزيارة تصب في مصلحة
أهل غزة البسطاء. فهؤلاء عانوا كثيرا بفعل الحصار الإسرائيلي والتواطؤ
العربي منذ فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية. وذاق الغزيون المر
أثناء وبعد العدوان الإسرائيلي على غزة طوال ثمانية عشر يوما من حملة
"الرصاص المصبوب" نهاية العام 2008 بداية 2009. ورغم التوافق على إعادة
الإعمار ورصد مليارات الدولارات في مؤتمر شرم الشيخ بداية مارس/ آذار 2009
إلا أن القرارات كانت مجرد حبر على ورق، ومنعت إسرائيل طوال السنوات
الماضية دخول مواد البناء إلى القطاع وفرضت حصارا اقتصاديا خانقا. ومن هذا
الجانب فإن الزيارة تعد اختراقا مهما وخطوة شجاعة لكسر الحصار، إضافة إلى
كونها مفيدة جدا لتعزيز صمود أهل غزة وتحسين البنية التحتية وإعمار ما
دمرته الحرب.
وفي المقابل فإن كسر الحصار على غزة، ورفع
قيمة المشروعات القطرية لإعادة الإعمار من 250 مليون دولار إلى أكثر من 400
مليون يجب ألا تغطي على تقصير العرب في إعادة إعمار غزة، إضافة إلى موضوع
دعم صمود المقدسيين، وتثبيت وجودهم في وجه مخططات إسرائيل لتهويد المدينة
وتفريغها من سكانها العرب. ومسح معالمها العربية الإسلامية والمسيحية. ودعم
أبناء الضفة لمواجهة غول الاستيطان.
المطلوب كنس الاحتلال وإنشاء دولة فلسطينية...
ليس في وسع المراقب إلا أن يتفق مع ما قاله
الشيخ حمد بأن الزيارة لم تكن لتتم لولا التغيرات التي شهدتها مصر.
فالزيارة تمت بعد اسقاط "كنز إسرائيل الاستراتيجي" الرئيس حسني مبارك الذي
فرض حصارا على غزة، ومنع وصول الطعام والدواء والوقود إلى القطاع. وحصر
الدور المصري بالتنسيق الأمني بين الفصائل وإسرائيل بعدما كانت لمصر اليد
الطولى سياسيا في الموضوع الفلسطيني.
لكن المطلوب أيضا إجراء تغييرات في طريقة
النظر إلى الموضوع الفلسطيني من عدة جوانب لعل أهمها الضغط على فتح وحماس
لانهاء حالة الانقسام الفلسطيني المدمر. وتقديم الدعم السياسي الكامل
لمشروع وطني لبناء دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة في
العام 1967، وتفعيل مبادرة بيروت العربية أو سحبها من الطاولة دون إقرار
مبادرة تنتقص مما جاء فيها انطلاقا من أنها السقف الأدنى الذي لا يمكن
التنازل عنه. ومن الأهمية بمكان عدم تحويل الفلسطينيين إلى شعب ينتظر
المساعدات والمنح، وضخ استثمارات لبناء اقتصاد وطني فلسطيني في غزة والضفة
والقدس، ولعل الفلسطينيين من أقدر الشعوب على إدارة اقتصادهم في حال غياب
الاحتلال، وهنا تبرز ضرورة الدعم العربي لانهاء الاحتلال لأنه لا معنى
لبناء مؤسسات دولة وبنية تحتية يستطيع الطيران الإسرائيلي قصفها وتحويلها
رمادا في ساعات. وتتمكن الدبابات والمدرعات الاسصرائيلية من الوصول إلى أي
نقطة في فلسطين واحتلالها.
وأخيرا أتوقف عند إشارة رمزية فقد رسمت
طائرتان إسرائيليتان في سماء غزة إشارة "X" في عرض بهلواني أثناء لحظة
دخول الأمير القطري إلى قطاع غزة من معبر رفح "فاتحا" كسر حصار سياسي
واقتصادي على القطاع استمر منذ منتصف العام 2007. وقل من انتبه إلى الحركة
الإسرائيلية المدروسة بعناية، فالغزيون اعتادوا على طلعات الطائرات
الإسرائيلية منذ سنوات طويلة. فيما خطف البساط الأحمر، وتفاصيل مراسم
"زيارة الدولة" أبصار آخرين، وأطربتهم أصوات النشيدين الوطنيين، واغلب الظن
أن معظم قادة حماس الفرحين بكسر الحصار على القطاع وأهله و"كيانهم
السياسي" لم يشعروا بأي خوف من أن يستهدف العدو الإسرائيلي موكب الأمير حمد
ورئيس وزرائهم إسماعيل هنية. لكن الرد الإسرائيلي لم يتأخر وقتل ثلاثة
فلسطينيين وجرح آخرون بعد مغادرة الأمير وصحبه، وربما تختزل إشارة "X" ما
يمكن أن تقدم عليه إسرائيل مستقبلا من تدمير وقتل يمحو أي أثر لهذه الزيارة
التاريخية بكل المقاييس في حال عدم إجبار إسرائيل على تسوية تاريخية تقبل
بدولة فلسطينية قابلة للعيش إلى جوارها بحدود الرابع من يونيو/حزيران 1967
وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين إلى ديارهم.